هيمن النموذج المادي العلماني الغربي على العلوم الإنسانية التي انطلقت من الإيمان بفكرة وحدة العلوم التي تذهب إلى أن ثمة قانونا واحدا يسري على الإنسان سريانه على كل الكائنات الأخرى، إذ الفرق بين الإنسان والحيوان من هذا المنظور فرق في الدرجة وليس في النوع.
وقد نتج عن هذا أن استبعد مفهوم الطبيعة البشرية باعتباره يتسم بقدر من الثبات، ومن ثم يعتبر "ملوثا بالميتافيزيقا" حسب التعبير ما بعد الحداثي.
وانغمست العلوم الإنسانية في التجريب على الحيوانات واستخلاص النتائج من تلك التجارب المعملية وتصور أنها تنطبق على الإنسان.
ولعل تجارب بافلوف على الكلاب والتوصل إلى ما يسمى "الفعل المنعكس الشرطي"، وتجارب المدرسة السلوكية على الفئران وتطبيق نتائجها على البشر، هي بلورة لهذا المفهوم وللمنهج الذي يتفرع عنه.
ولهثت العلوم الإنسانية وراء "الضبط الصارم" للتجارب والمفاهيم، وسعت للتوصل إلى مؤشرات كمية منفصلة عن القيمة محاكية العلوم الطبيعية، واستعانت بأدوات علم النفس الإكلينيكي أو المعملي لفهم السلوك الفردي والجماعي.
وانصبت دراسات علم النفس التجريبي في الخمسينيات والستينيات على رصد سلوك الإنسان من الخارج، تماما كما يُرصد سلوك الطيور والنمل، وأضحت المفاهيم موضوعا للضبط والقياس ومجالا للتعريف الدقيق، ومساحة تسعى العلوم الإنسانية من خلال التماس الدقة فيها إلى اللحاق بالعلوم الطبيعية، بحيث تصل إلى درجة من اليقين العلمي لا تختلف عن مثيلتها في العلوم الطبيعية.
وقد هيمنت خلال هذه الفترة فكرة الموضوعية والاتجاه نحو علم إنساني خال من القيم value-free، وهو ما جعل الاهتمام بدراسة القيم يتوارى.
وساد افتراض أن البحث العلمي يجب أن يتيح اختبار الظاهرة نفسها والوصول للنتائج نفسها إذا تم استخدام المنهج نفسه.
ومن الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في القرن العشرين أن النموذج الحضاري الغربي الحديث أصبح يشغل مكانا مركزيا في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب بسبب انتصاراته -أو إن شئنا الدقة فلنقل هيمنته- المعرفية والعسكرية الواضحة في مجالات عديدة، خاصة أنها ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة المفرطة بالنفس من جانب الإنسان الغربي، وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وأن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان، أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الحديث.
ولعله بسبب هزيمة العالم الإسلامي أصبحت محاولة "اللحاق بالغرب" هي جوهر معظم المشروعات النهضوية – الليبرالية والماركسية والإيمانية - في العالم الثالث بما في ذلك العالم الإسلامي، علميا وفلسفيا.
والسمة الأساسية لكل المشروعات الحضارية السابقة رغم تنوعها واختلافها وتصارعها هي أنها جعلت الغرب نقطة مرجعية نهائية ومطلقة، وأصبح الغرب بامتداده "الشمالي" هو هذا التشكيل الحضاري الذي سبقنا والذي علينا (نحن أهل الجنوب اللاتيني الأفريقي العربي الآسيوي) اللحاق به أو الذي سبقناه حسب الرؤية "الإيمانية" التلفيقية، وعلينا أيضا اللحاق به.
فثمة نقطة واحدة تحاول كل المجتمعات الوصول إليها، وثمة طريقة واحدة لإدارة المجتمعات ولتحديد تطلعات البشر وأحلامهم وسلوكهم، أي أن ثمة رؤية واحدة عالمية للإنسان والكون، لا فرق بين من يقبل جوهرها وإن غالى في الفصل بين الجنسين وسعى لأسلمة العلم الغربي (لا تحديه برؤى بديلة ندية)، أو من تبنى جوهر الرؤية الغربية وأطلق العنان للشره الجسدي باسم الحرية الفردية.
ومن ثم تحول الغرب من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر "العالمي" الحديث.
وقد أضفى هذا شرعية هائلة على عملية اللحاق بأوروبا، إذ أصبح العلم الغربي الذي يسعى المثقفون العرب والمسلمون إلى تحصيله علما عالميا حديثا، وأصبح الرضوخ الفكري للغرب والتبعية الفكرية له من سمات التقدمية والتحرر والطريق الوحيد إلى الانتماء للعصر الحديث والعالمية.
ونتيجة لهذا الوضع تحيز معظم مثقفي العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث للتراث الغربي وأهملوا تراثهم، بل وأهملوا التراث العالمي ذاته.
فمَن مِنا يهتم حقا باليابان والصين؟ ومَن مِنا يدرس السواحيلية لغة معظم سكان أفريقيا الشرقية، واللغة التي تربطها صلة قرابة بالعروبة والإسلام؟ أو من يفكر في تنمية بديلة تتفاعل مع رؤى تمكين المجتمع والحفاظ على الأسرة ورفض ماكينة الخدمات؟
تغافل الجميع لتحصيل ما يسمَّى الثقافة العالمية دون أي تساؤل بخصوص المفاهيم الإدراكية الكامنة فيه أو بخصوص جذوره التاريخية أو الآليات الاجتماعية التي أدت إلى ظهورها.
وأصبحت مهمة الباحث هي تلقي المعلومات التي يُقال لها عالمية، والتي هي في واقع الأمر غربية، ثم إعادة إنتاجها على هيئة دراسات وكتب جيدة الهوامش (وجيدة في تهميشنا أيضا) تظل حبيسة المفاهيم الغربية وتساهم في تطوير المعارف والعلوم الغربية، وفي فصل الباحث عن مجتمعه وعن معجمه الحضاري.
فيصبح "العالَِم" البارز المستنير أقدر على مخاطبة مؤتمرات الغربيين ودوائر العولمة منه على التواصل مع جاره أو مع رجل الشارع العادي.
ولكن تشهد العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب ودوائر الدراسات الفلسفية مراجعات نقدية ونقاشات عميقة تراجع الكثير من المسلمات التي قام عليها العلم الحديث، أو إن شئنا الدقة فلنقل "الحداثي"، فقد شكلت رؤى الحداثة ومنطلقاتها الفلسفية "العقل العلمي الغربي".
فثمة نقد ونقض للكثير من منطلقات العلوم التي تدرس الظاهرة الإنسانية، لم يقتصر على الدوائر الأكاديمية فحسب، بل شهدت الأنساق الأيدلوجية ذاتها مراجعات، فقامت مدارس ليبرالية بمراجعة فكرة الفردية نحو مزيد من الاحتفاء بالجماعة، وبرزت مدرسة فرانكفورت التي أرادت استعادة مركزية الإنسان في النسق الأيديولوجي الماركسي من أجل "أنسنته".
وهكذا فإن العلوم والأيدلوجيات شهدت مراجعات للنموذج الإدراكي أو المعرفي الحاكم نحو مزيد من الاجتهاد لرؤى تتجاوز الحداثة بل وتتجاوز مدرسة "ما بعد الحداثة" ذاتها ولا تتقيد بفكرتها النسبية ومنحاها التقويضي العدمي.
إن الاجتهاد يعني ببساطة حرية العقل وأن كل ما هو إنساني له بُعد ثقافي وحضاري، وتعبير عن نموذج حاكم ليس من المفيد إخفاء مسلماته والتعمية عليها، بل الأهم كشفها ومناقشتها وتقويم الإسهام العلمي والفكري بناء على اتساقه معها.
وقد شهدت نهاية الثمانينيات عودة إلى الاهتمام بالقيم وبالمنظومات الثقافية والمعرفية وعلاقتها بمناهج العلوم بشكل مباشر، كموضوع وكإطار يمكن أن يتم دمجه في مناهج الاقتراب والبحث وزوايا التحليل وذلك بسبب عدة تطورات، من أهمها ما يلي.
1- استرجاع مفهوم الطبيعة البشرية ومن ثم مفاهيم القيمة والهدف والغاية، لأن حركة المادة حركة عمياء صماء لا تعرف القيمة ولا الهدف ولا الغاية.
وقد تنامى الإدراك بأن القيم تؤثر في إدراك الواقع وأن تجاهلها يحرم النظرية من أدوات هامة للفهم والتفسير.
كما تزايد الوعي بأن القيم ليست مبحثا منفصلا أو محض موضوع مستقل، بل هي تدخل في دراسة كل الظواهر الإنسانية، بل وتحدد القيم المدنية الأساسية من عدل ومساواة وشفافية وكفاءة وديمقراطية للقرار السياسي.
وربما لهذا السبب نجد أن الولايات المتحدة على سبيل المثال تجد نفسها في الوقت الحاضر مضطرة إلى ادعاء أنها تغزو العراق من أجل نشر الحرية والديمقراطية، وتضرب المدنيين بالقنابل النووية وغير النووية دفاعا عن الإنسان.
2- تنامي النقد للفكر العقلاني الجامد ولفلسفة الحداثة التي قامت على العقلانية المادية، وظهور أصوات تطالب بإعادة تعريف العقلانية من جديد كي لا تكون متناقضة مع العقل أو العقيدة أو حتى المجاز في اللغة.
وتنامى الإدراك بأن هناك أساطير داخل صناعة العلم ذاته، أي أنه تم نقد العقلانية المادية الصلبة لصالح عقلانية مركبة أكثر رحابة تتيح مكانا للقيم والذات والأبعاد الثقافية في التحليل بما يثري النظرية والمنهج.
3- تنامي الوعي بأن منظومة الحداثة والتنوير الفكرية التي قامت على مركزية الإنسان وإخضاع الكون لعقله وتنحية القيم لصالح القوة والسلطة وإخضاع الطبيعة قد أدت إلى مشكلات التسلح النووي المدمر، والعبث بالطبيعة الإنسانية من خلال الهندسة الوراثية وتدمير البيئة، وإدراك أن العلم وحده دون منظومة قيم حاكمة لمساره قد يدمر الإنسان ذاته، وتنامي الجدل داخل العلوم الطبيعية والطبية بشأن الحدود الأخلاقية الواجب الالتزام بها.
4- تنامي المد الديني في كل التقاليد الدينية في الأديان الثلاثة الكبرى فضلا عن الأديان الوضعية كالبوذية والهندوسية، بل وظهور أديان وضعية وروحانية جديدة، بما يعكس أن العقلانية وحدها لا تفي باحتياجات الإنسان النفسية والروحية.
وهذا ما جعل العديد من الباحثين يعيد النظر في الدين كمصدر للمعرفة العلمية ومنبع للمفاهيم النظرية، فظهرت فكرة إسلامية المعرفة ومسيحية المعرفة بل ويهودية المعرفة، والربط بين التصور الديني وتصور البحث والفهم في النظرية الاجتماعية، أو على الأقل إعادة الاعتبار للدين كموضوع للبحث يدخل في التحليل السياسي.
فلا يمكن فهم سياسات البلقان في التسعينيات، أو المواجهات العرقية أو السياسة الخارجية الأميركية اليوم في ظل المحافظين الجدد وتحالفهم مع اليمين الديني وبعض الكنائس المسيحية التي تؤيد الصهيونية إلا بفهم الدين والوعي بأهميته كعامل ذي أثر هام، بل وحاسم أحيانا.
فإذا كانت فكرة فصل الدين عن العلم وخلق علوم محايدة خالية من القيم قد جاءت في ظل توجه علماني في الفلسفة والعلم في القرن السابع عشر وما تلاه، فإن إخفاق الحداثة في تحقق توقعاتها بزوال الدين ومنظوماته العقدية والأخلاقية قد أدى إلى مراجعة الفكرة ومراجعة نتائجها وتجلياتها على العلوم الاجتماعية وإعادة الاعتبار إلى القيم والدين كمصدر للمعرفة وموضوع للبحث.
والحق أن هم المراجعة لم يكن غربيا فقط، فعلى أرضية عربية قومية برزت محاولات فردية لصياغة رؤى مختلفة مثل جهود جمال حمدان وإسماعيل راجي الفاروقي وأنور عبد الملك ومالك بن نبي في الدراسات الحضارية الإستراتيجية، بل وناقش بعض علماء الاجتماع العرب إمكانية تأسيس علم اجتماع عربي وصلته بالعلم الغربي.
وفي العلوم والفنون والعمارة برزت إبداعات تعيد معانقة التاريخ وتطوره لخدمة البيئة والإنسان.
وكانت الستينيات والسبعينيات والثمانينيات تحمل إرهاصات قلق فكري ووجودي في العلوم الاجتماعية العربية، وهي الفترة التي شهدت ظهور الفكر القومي العربي الذي أكد أهمية الهوية والموروث الحضاري والخصوصية الحضارية وضرورة الحفاظ عليها.
وبعد ذلك ظهرت فكرة أسلمة المعرفة التي تحاول استعادة مفهوم الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية للعلوم الإنسانية وربط هذه العلوم بمنظومة القيم الإنسانية الإسلامية.
باختصار شديد تنامى الإحساس لدى الكثيرين بأن هُوية الأمة -سواء كانت قومية أو دينية- مهددة بسبب تبنيها لنماذج ورؤى الآخر دون إدراك عميق أحيانا للتضمينات المعرفية لهذه النماذج. والله أعلم.